فصل: قال محمد الغزالي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ}.
قال ابن عرفة: القتال الذي وقع منهم في الشّهر الحرام، إن كان غلطا فهو كبير موجب للإثم، وإن كان اجتهادا أجري على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع حكم الخطأ أم لا؟ فإن قلت: لم أعيد لفظ القتال مظهرا، وهلا كان مضمرا، ولم أعيد منكرا وهلا كان معرفا؟ قيل: الجواب أنّ ذلك لاختلاف المتكلّم فالأول في الكلام السائل والثاني في كلام المسؤول.
قال الفراء وهو معطوف على كبير.
قال ابن عطية: وهو خطأ لأنه يؤدي إلى أنّ قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ} معطوف على {كَبِير} فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله من الكفر. وأجيب عنه بثلاثة أوجه:
الأول: لأبي حيان أنّ الكلام تمّ عند {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} وما بعده ابتداء.
الثاني: قال ابن عرفة: الكفر قسمان: صريح حقيقي وهو الكفر بالشرك، وكفر حكمي غير صريح. فنقول: دلت الآية على أن القتال في الشهر الحرام كفر وإن لم يعتقد فاعله الكفر، وكذلك إخراج أهل المسجد الحرام منه كفر وإن لم يعتقده فاعله فجعل الشارع إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر إثما من الكفر الحكمي الذي نشأ عن القتال في الشهر الحرام، وهذا لا شيء فيه ولاسيما إن جعلنا الضمير في {وَكُفْرٌ بِهِ} عائدا على {عن سَبِيلِ الله}.
الجواب الثالث: لبعض الطلبة قال: أهل المسجد الحرام عام يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ولا شك أن اخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام كفر وزيادة فهو أشد من الكفر بالله عز وجل فقط.
وحكى ابن عطية عن الزهري ومجاهد، أن {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} منسوخ بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} ورده القرطبي: بأن {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} عام وهذا خاص، والخاص يقضي على العام.؟
وأجاب عن ذلك ابن عرفة: بأن الأصوليين قالوا: إنّ العام إذا تأخر عن الخاص فإنّه ينسخه.
قلت: قال أبو عمرو بن الحاجب ما نصه: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب. أبو حنيفة والقاضي والإمام: إن كان الخاص متأخرا وإلا فالعام ناسخ، فإن جهل تساقطا.
قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ}.
قال ابن عرفة: في لفظها رحمة وتفضل من الله عز وجل لأن قبلها {حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فكان المناسب أن يقول: ومن يُرَدّ منكم عن دينه؛ لكنّه لو قيل هكذا لدخل في عمومه من أكره على الردة. فقال: ومن {يَرْتَدِدِ} ليختص الوعيد بمن ارتدّ مختارا متعمدا.
فإن قلت: هلا قيل: فَيَمُتْ وَهْوَ مرتدّ، ليناسب أوّل الآية آخرها، ويسمونه ردّ العجز على الصدر؟
قال: قلت: إنّ من عادتهم يجيبون بأنه لو قيل كذلك لتناول مرتكب الكبيرة من المسلمين لأنه يصدق عليه أنّه مرتد عن دينه لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}.
{إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام} وفسر الإسلام في الحديث بأن قال: «هو أَن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» فالإسلام حقيقة مركبة من هذه الخمسة أمور فمتى عدم بعضها عدم الإسلام لامتناع وجود الماهية بدون أحد أجزائها فمن فعلها كلّها ثم بدا له في بعضها فلم يفعله يصدق عليه أنه مرتدّ عن دينه، وأنه غير مسلم، فلذلك قال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}.
قال أبو حيان: قوله: {وهو كافر} حال مؤكدة.
ورده ابن عرفة بوجهين:
الأول: منهما ما قلناه: من أنّه احتراز من موت مرتكب الكبيرة، فإنه مات مرتدّا عن دينه الذي هو الإسلام.
الجواب الثاني: أنّها إنما تكون مؤكدة أن لو كانت حالا من {يرْتَدِد} ونحن إنّما جعلناها حالا من {يَمُتْ} والمرتدّ يحتمل أن يراجع الإسلام فيموت مسلما.
قيل لابن عرفة: فيمت معطوف على {يَرتَدِدْ} بالفاء التي للتعقيب، فهو بعقب رِدّته مات؟ فقال: هما زمانان ارتدّ في الأول ومات في الثاني، إمّا مسلما أو كافرا، في حال مبينة بلا شكّ.
قوله تعالى: {فأولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}.
عامل {أولئك} لفظ مَن ثم معناها، فوجه أبو حيان من طريق الإعراب اللفظي.
قال ابن عرفة: قالوا وتوجيهه من جهة المعنى أن الأول راجع إلى فعلهم القبيح في الدنيا، فالمناسب فيه تقليل الفاعل تنفيرا عنه فلذلك أفرده، والثاني راجع إلى جزاء ذلك والعقوبة عليه في الدار الآخرة فالمناسب فيه لفظ العموم في جميع الفاعلين خشية أن يتوهم خصوص ذلك الوعيد بالبعض دون البعض.
قال ابن عرفة: وإحباط أعمالهم في الدنيا بترك الصلاة عليهم وعدم دفنهم في مقابر المسلمين ومنع أقاربهم من إرثهم.
قال الزمخشري: وذلك مما يتوقع هنا بالردة للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام واستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة.
قال ابن عرفة: ومذهبنا أنه يعتق على المرتدّ أمّ ولده ومدبره دون الموصى بعتقه. ومذهب الإمام مالك رضي الله عنه أن ميراثه لبيت المال.
قال القاضي عياض في الإكمال: وقال الإمام الشافعي: ميراثه لجماعة المسلمين. ووهنه تاج الدين الفاكهاني وقال: بل مذهبه كمذهب مالك. وكذا حكى عنه الغزالي في البسيط.
ابن عطية وروي عن علي رضي الله عنه أنه استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله. ونقل عنه كرم الله وجهه: أن يستتاب ثلاث مرات فإن تاب في الأولى ترك، وإلا روجع في الثانية ثم الثالثة فإن تاب وإلا قتل. قال: ومنهم من فرق بين الذكر والأنثى فمنع قتل الأنثى. قال ابن عرفة ووجهه أنه عنده كالحربي سواء. اهـ.

.قال محمد الغزالي:

الحكمة في توجيه هذه السرايا على ذلك النحو المتتابع تتلخص في أمرين:
أولهما:
إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم. ذلك الضعف الذي مكن قريشًا في مكة من مصادرة عقائدهم وحرياتهم واغتصاب دورهم وأموالهم، ومن حق المسلمين أن يعنوا بهذه المظاهرات العسكرية على ضآلة شأنها، فإن المتربصين بالإسلام في المدينة كثرٌ، ولن يصدهم عن النيل منه إلاّ الخوف وحده. وهذا تفسير قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}.
والصنف الأخير هم المنافقون الذين يبطنون البغضاء للإسلام وأهله، ولا يمنعهم من إعلان السخط عليه إلا الجبن وسوء المغبة، أما الأولون فهم المشركون ولصوص الصحراء وأشباههم ممن لا يبالون- لولا هذه السرايا- الهجوم على المدينة واستباحة حماها.
وقد كان من الجائز أن تتكرر حادثة كرز بن جابر السابقة، ويتجرأ البدو على تهديد المدينة حينًا بعد حين؛ غير أن هذه السرايا الزاحفة قتلت نيات الطمع وحفظت هيبة المسلمين.
والأمر الآخر:
- في حكمة بعث السرايا- إنذار قريش عقبى طيشها.
فقد حاربت الإسلام ولا تزال تحاربه، ونكلت بالمسلمين في مكة، ثم ظلت ماضية في غيها، لا تسمح لأحد من أهل مكة أن يدخل في دين الله، ولا تسمح لهذا الدين أن يجدد قرارًا في بقعة أخرى من الأرض، فأحب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعر حكام مكة بأن هذه الخطة الجائرة ستلحق بهم الأضرار الفادحة، وأنه قد مضى- إلى غير عودة- ذلك العصر الذي كانوا يعتدون فيه على المؤمنين وهم بمأمن من القصاص.
والمستشرقون الأوروبيون ينظرون إلى هذه السرايا كأنا ضرب من قطع الطريق، وهذه النظرة صورة للحقد الذي يعمي عن الحقائق، ويتيح للهوى أن يتكلم ويحكم كيف يشاء.
وقد ذكرني هذا الاستشراق المغرض بما حكوه عند قمع الإنكليز لثورة الأهلين في أفريقيا الوسطى- مستعمرة كينيا- وهم يطلبون الحرية لوطنهم ويحاولون إجلاء الأجانب عنه.
قال جندي إنكليزي لآخر- يصف هؤلاء الإفريقيين-:
إنهم وحوش، تصوَّر أن أحدهم عضّني وأنا أقتله!!! إن هذه الأضحوكة صورة من تفكير المستشرقين في إنصاف أهل مكة والنعي على الإسلام وأهله.
ثم قال رحمه الله بعد أن ذكر قصة سرية عبد الله بن جحش- رضى الله عنه-:
ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله، وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسمًا هذه الأقاويل ومؤيدًا مسلك عبد الله تجاه المشركين.
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}.
إن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله! فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟
ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر قتل نبيهم وسلب أموالهم؟
لكن بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عندما تكون في مصلحته.
فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقضها هدم القوانين والدساتير جميعًا.
فالقانون المرعي- عنده في الحقيقة- هو مقتضيات هذه المصلحة الخاصة فحسب.
وقد أوضح الله عز وجل أن المشركين لن يحجزهم شهر حرام أو بلد حرام عن المضي في خطتهم الأصيلة، وهي سحق المسلمين، حتى لا تقوم لدينهم قائمة فقال: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا}.
ثم حذر المسلمين من الهزيمة أمام هذه القوى الباغية والتفريط في الإيمان الذي شرفهم الله به، وناط سعادتهم في الدنيا والآخرة بالبقاء عليه فقال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وزكّى القرآن عمل عبدالله وصحبه، فقد نفذوا أوامر الرسول بأمانة وشجاعة، وتوغلوا في أرض العدو مسافات شاسعة، متعرضين للقتل في سبيل الله، متطوعين لذلك من غير مكرهٍ أو محرج.
فكيف يجزون على هذا بالتقريع والتخويف؟ قال الله فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
والقرآن الذي نزل في فعال هذه السرية لم يدع مجالًا للهوادة مع المشركين المعتدين مما كان له أثره البعيد لدى المسلمين وخصومهم.
فبعد أن كان أغلب المكتتبين في السرايا السابقة من المهاجرين أخذت البعوث الخارجة تتألف من المهاجرين والأنصار معًا.
وزاد الشعور بأن الكفاح المرتقب قد يطول مداه وتكثر تبعاته، ولكنه كفاح مستحب، مقرون بالخير العاجل والآجل.
وأدركت مكة أنها مؤاخذة بما جدّ أو يجدّ من سيئاتها، وأن تجارتها مع الشام أمست تحت رحمة المسلمين.
وهكذا اتسعت الهوة، وزادت بين الفريقين الجفوة.
وكأن هذه الأحداث الشداد هي المقدمة لما أعدّه القدر بعد شهر واحد من وقوعها، عندما جمع رجالات مكة وخيرة أهل المدينة على موعد غير منظور في بدر. اهـ.